الجلاد
بسم الله الرحمن الرحيم
قد تعتقد عزيزي القارئ و أنت تؤدي مهنتك بضيق وإرهاق, أنها أصعب مهنة في العالم والأقل توفيرا للدخل. لكنك قد تسهى عن حقيقة أن هنالك مهن أخرى أكثر صعوبة بل و أحيانا تكون مستحيلة من ذلك مهنة الجلاد أو السياف أو ببساطة منفذ حكم الإعدام. فكثيرا ما قرأنا عن شخصيات عبر التاريخ نفذت فيها أحكام الإعدام بأشكاله المتعددة لكننا لم نكد نتعرف على هوية و طبيعة بعض هؤلاء الناس الذين كلفوا بأداء المهمة. في وظيفة أقل ما يقال عنها أنها مرعبة وقاسية.
جاك كيتش .. الجلاد الأكثر غباءا في التاريخ ! ..
في العصور الوسيطة كان الإعدام يتم علنيا وفي أماكن عامة. وكان له هدفان أساسيان أولهما هو إحداث حالة من الصدمة والرعب داخل نفوس الحاضرين وثانيهما هو تـنفيذ العدالة الإلهية بيدي جلاد خبير ذو وقار في عمله. وغالبا ما يكون عملا موروثا من الآباء والأجداد. ومثلما سجل التاريخ شخصيات أتقنت عملها إلى درجة كبيرة. سجل أيضا بعض الأسماء التي لم تبرع جيدا في مهمة الجلاد فجعلت عملية قطع الرأس بشعة ودموية ومليئة بالمعاناة للضحية وكذلك للمشاهدين. و نجد أبرز الشخصيات التي حملت لقب "أكثر الجلادين دموية" هو الإنكليزي جاك كيتش Jack Ketch . فقد كان رمزا للرعب لدى الكثيرين. حتى أن بعض الآباء حين كانوا يرغبون في إخافة أبنائهم يذكرون أن جاك كيتش يختبأ داخل الخزانة فترى الأطفال المساكين يرتعدون خوفا.
غادر جاك كيتش إرلندا وهو لا يزال شابا بإتجاه لندن أواسط القرن السابع عشر. وأغلب الظن أنه بدأ عمله سنة 1663 في فترة تميزت بعدم الاستقرار داخل المجتمع الإنكليزي تحت حكم الملك تشارلز الثاني.
لم يكن السيد كيتش مشهورا من حيث حسن أداء مهامه أو دقته في قطع الرؤوس. بل على العكس من ذلك تماما إذ عرف بساديته ووحشيته في تنفيذ الإعدام وذلك عن طريق استعمال الفأس. فغالبا ما كان يصوبه إلى أماكن خاطئة من الجسد فيدفعه ذلك إلى إعادة الضربة وتكرار العملية مرات عديدة. فيصبح الإعدام عملية مربكة ومرهقة لجاك. ولك أن تتخيل عزيزي القارئ إحساس الضحية تجاه تلك الأخطاء القاتلة للجلاد .
و قبل تنفيذ كل حكم يتم الإعلان عنه بقصاصات تعلق في كامل المملكة. وغالبا ما كانت الأحكام التي يتكفل جاك كيتش بتنفيذها هي الأكثر إقبالا من الرعية. وأشهر تلك المحاكمات هي إعدام دوق منماوث جيمس سكوت الإبن غير الشرعي للملك و اللورد ويليام راسل عضو البرلمان والذين أتهما بالتآمر على قتل الملك تشارلز الثاني وشقيقه جيمس دوق يورك وولي العهد. وذلك لتنصيب دوق منماوث جيمس سكوت خليفة لوالده الذي لم يرزق بأطفال من زوجته الملكة الكاثوليكية. لذلك يقال أنه تزوج سرا من عشيقته البروتستانتية لوسي ولتر. لكن الكنيسة بروما لم تكن لتقبل بوريث للحكم غير كاثوليكي.
حتما "أمه داعيه عليه" من كان يرميه حظه السيء تحت رحمة سيف كيتش البليد ..
سنة 1683نفذ جاك كيتش حكم الإعدام في اللورد ويليام راسل. كانت محاكمة دموية جدا كلفت الضحية الكثير من الألم والعديد من الضربات الموجعة بالفأس. وصفها المؤرخون" بالسجل الأسود" في تاريخ بريطانيا. لكن كيتش برر دموية الإعدام الذي نفذه "بسوء تموقع اللورد راسل أثناء ضربات الفأس". بعد ذلك بسنتين اقتيد دوق منماوث جيمس سكوت إلى الساحة الأمامية لبرج لندن ليجد كيتش بإنتظاره ولم يشفع له رجاءه لوقف الإعدام. حتى أنه قدم لجلاده قطعا ذهبية ليرأف به أثناء التنفيذ. لكن حضه لم يكن أفضل ممن سبقوه ، فتحمل ثمان ضربات بالفأس قبل أن يسلم روحه إلى خالقه.
ويقال أيضا أنه بعد قطع رأسه تم اكتشاف حقيقة أن الدوق جيمس سكوت لم يكن له أية صورة لذلك قاموا بخياطة رأسه المقطوع إلى جسمه ثم أجلست جثته على كرسي ليتمكن الرسام من تخليد ملامح الأبن الغير شرعي للملك.
بعض القصص تدعي أن الملك تشارلز الثاني لم ينفذ على إبنه الإعدام وأن من قطع رأسه كان شخصا آخر. وأن الرجل ذو القناع الحديدي في برج لندن كان جيمس سكوت قبل أن يرسله والده إلى فرنسا. أما جاك كيتش فقد أودع بعد ذلك في السجن سنة 1686 بتهمة إهانة رجل أمن وتوفي في نفس العام.
لكل منا قدره في هذه الحياة , فلو لم يذهب هاينريش شميت , ذلك الحطاب الألماني البائس , إلى ميدان بلدته في صباح ذات يوم منحوس قبل أكثر من أربعة قرون , ربما لتغير مصيره ولما أصبح ذلك الرجل الذي يقوم بتسريع رحيل الناس إلى العالم الآخر ! ..
الأمر كله بدأ بشنق بعض اللصوص ..
في ذلك الصباح الكئيب وقف هاينريش وسط حشد كبير من الناس كانوا قد تجمعوا في الميدان الكبير لبلدة هوف البافارية من أجل مشاهدة العقاب الذي سيحل بثلاث لصوص ألقي القبض عليهم مؤخرا . حاكم المدينة أمر بأن يتم شنق اللصوص في الحال , لكن مستشاره همس في أذنه قائلا بأن المدينة تفتقر إلى جلاد متمرس وأقترح عليه أن يتم إعدامهم بطريقة أخرى . بيد أن الحاكم المتغطرس أصر على الشنق , وسرعان ما وجد حلا لمشكلة الجلاد , إذ أومأ نحو الحشود ... حرك يده يمينا وشمالا حتى أستقر أصبعه "المقدس" على رجل طويل القامة قوي البنية فصاح به قائلا : أنت ! ..
ولم يكن ذلك الرجل سوى صاحبنا هاينريش الذي رد باستغراب : أنا يا مولاي ؟! ..
الحاكم : نعم أنت أيها الطويل .. تعال إلى هنا وقم بشنق هؤلاء السفلة الثلاثة .
هاينريش : لكني حطاب بائس يا سيدي ولا خبرة لي بشنق الناس .. أرجوا أن تعفيني من ذلك ..
فقطب الحاكم جبينه وصاح محتدا وهو يلوح بإصبعه كالسيف : أمامك خياران .. أما أن تأتي وتقوم بشنق اللصوص .. أو أن تنضم إليهم .. ليس أنت وحسب .. بل والرجلان اللذان يقفان إلى يمينك ويسارك ..
سبحان الله ! .. يبدو أن هذا الحاكم الألماني يمت بصلة قرابة وثيقة لبعض حكامنا وقضاتنا في الشرق الأوسط "العظيم" ! .. المهم .. أمام هذا الطغيان والاستبداد وهذه القسوة والرعونة لم يجد هاينريش الحطاب بدا من التنفيذ , فأخرج حبله الذي يستعمله لحزم الحطب وقام بشنق اللصوص واحدا بعد الآخر , وحين انتهى من مهمته بنجاح أقترب منه مستشار الحاكم ودس في يده قطعة نقدية فضية .
منذ تلك اللحظة انقلبت حياة هاينريش رأسا على عقب , صار أهل البلدة يتجنبونه كالمجذوم , لم يعد هناك من يشتري منه الحطب , ولم تعد الجارات يطرقن باب زوجته لإلقاء التحية والسؤال عنها , ولم يعد مسموحا لأولاده بأن يلعبوا مع بقية أولاد الحي , لم يعد مرحبا بالعائلة حتى في الكنيسة .. لقد تعرضت العائلة للنبذ الكامل .
طبعا قد يسأل المرء نفسه : ما ذنب هاينريش لكي يعامل هو وعائلته بهذه الطريقة ؟ ..
والجواب يكمن في سلوك البشر تجاه الموت , فمعظم الناس لا يرغبون بأن تكون لهم أي علاقة بكل ما يتصل بعالم الموت وطقوسه , ربما لا يريدون شيئا يذكرهم بأن الموت هو النهاية الحتمية لحياتهم , لدرجة أن بعض الأشخاص قد يشعرون بالسوء لمجرد مرورهم بمغتسل للموتى أو مشرحة أو رؤيتهم لجثة عن طريق الصدفة , وعليه فأن بعض المهن , كالجلاد والدفان , تكون محتقرة ومكروهة , وغالبا ما تكون متوارثة داخل عائلات معينة لأن لا أحد يرغب في امتهانها وممارستها .
بالعودة إلى هاينريش , فبعد عدة أيام على شنقه اللصوص أتاه رسول الحاكم يطلبه لتنفيذ عملية إعدام أخرى , ولأن هاينريش كان بلا عمل جراء نبذ الناس له , لذلك لم يجد بدا من الذهاب أملا بالحصول على بعض المال يعيل به عائلته .. وهكذا أصبح هاينريش جلادا رسميا وتعلم بالتدريج أصول وفنون مهنة القتل والتعذيب وأخذ يلقنها لأبنه البكر فرانز الذي أصبح ساعده الأيمن وحل محله بعد أن تقدمت به السن .
فرانز كان في التاسعة عشر من عمره عندما نفذ أول عملية إعدام بمفرده , حدث ذلك عام 1573 , قام خلالها بشنق أحد اللصوص في بلدة شتايناخ البافارية , وكان عمله متقنا بحيث نال استحسان والده هاينريش وإطراء الموظف المسئول عن تنفيذ قرار المحكمة , فتم تعيينه رسميا كجلاد وسرعان ما أثبت بأنه خير خلف لوالده , إذ أتسم عمله بالدقة والنظافة , وكان من الجلادين القلائل القادرين على فصل الرأس عن الجسد بضربة واحدة من سيفه العملاق , لم يفشل في ذلك خلال سنوات عمله الطويلة سوى أربع مرات , وهي للعلم عملية تحتاج إلى دقة ومهارة عالية , فالقدم يجب أن تكون ثابتة , والساعد حديد , والسيف حاد .. ويجب أن يقع النصل على العنق مباشرة , وهو أمر يفشل فيه العديد من الجلادين , فتراه يخطأ العنق فيصيب الرأس أو الكتف , أو يقع النصل على العنق معوجا , مما يتطلب ضربات أخرى , وفي ذلك ما فيه من بشاعة المنظر , وشدة العذاب والألم للمعدوم .
فرانز كان ماهرا جدا في عمله ..
دقة ومهارة فرانز في قطع الأعناق ليس مردها قوته وبنيته الصلبة فقط , بل احتفاظه بتركيزه على الدوام عن طريق الامتناع عن شرب الخمر , وهو أمر نادر في عالم الجلادين , فأغلبهم مدمن للخمر يعاقرها حتى الثمالة لئلا يرق قلبه أو تخونه شجاعته أو يؤنبه ضميره , خصوصا عند إعدام صغار السن والنساء الجميلات , فالجلاد بالنهاية إنسان . لكن فرانز لم يكن بحاجة إلى الخمر ليعالج ضميره , فهو بالأساس لم يشعر يوما بتأنيب الضمير , التعذيب والموت برأيه كانا تطهيرا لذنوب ضحاياه والسبيل الوحيد لحصولهم على الغفران , ولهذا فقد شعر بأنه يؤدي واجبا مقدسا وعملا مفيدا .. فلولاه لخسر المذنبون الآخرة فضلا عن دنياهم .
عمل الجلاد في القرون الوسطى كان أشبه بعمل المخرج المسرحي في يومنا هذا , فعملية الإعدام بحد ذاتها كانت عبارة عن مسرحية تقام في الميادين العامة بحضور جمهور كبير متلهف لرؤية شيء مثير في زمن لم تكن فيه وسائل الترفيه متاحة .. لا تلفاز .. لا سينما .. لا انترنت .. لا مراكز تسوق .. لا شيء أبدا سوى حياة رتيبة يصحو الناس فيها مبكرا وينامون مبكرا .. كالدجاج تماما .. ويموتون مبكرا أيضا لكثرة الأوبئة والحروب والمجاعات . وعليه فأن إعدام شخص في ميدان المدينة أو البلدة كان حدثا استثنائيا , بمثابة مهرجان , يأتيه الناس زرافات وهو يرفلون بأجمل ثيابهم , وربما أحضروا معهم أطفالهم وطعاما يتناولوه ومكسرات يقزقزونها فيما هم بانتظار بداية العرض .
لكن لماذا لم يكن الناس يخشون هذه المشاهد الدموية في ذلك الزمان ؟ ..
الموت كان حاضرا بقوة في حياة الناس ..
الجواب ببساطة يكمن في كون الموت كان حاضرا بقوة في حياتهم آنذاك , وعليه فأن رؤية أحدهم يموت لم يعد أمرا مرعبا بالنسبة لمعظمهم . الأمر ذاته نراه اليوم في مناطق الحروب , فتكرار رؤية الجثث والأجساد الممزقة تجعل هذه المناظر أمرا عاديا حتى بالنسبة للنساء والأطفال .. أنه التطبع عزيزي القارئ .. التطبع الذي جعل جارتنا الفتاة السمراء الرقيقة التي أغمي عليها خلال أول حصة تشريح في كلية الطب .. جعلها اليوم خبيرة بفتح البطون وتقطيع الأوصال البشرية كأنها تقطع دجاجة في مطبخها ومن دون أن تهتز شعرة في رأسها ! .
وكانت الدول في ذلك الزمان حريصة على أن تشاهد شعوبها هذه المسرحيات والمهرجانات الدموية , فتلك كانت وسيلتها الوحيدة لإثبات سطوتها وقوتها في زمن لم يكن فيه وجود لوسائل الأعلام المعاصرة كي تصدع رؤوس الناس بالأخبار العاجلة عن موت فلان واعتقال علان . كانت الأخبار تنتقل بطريقتين , أما أن يسمعها الناس شفاها من أقربائهم وأصدقائهم القادمين توا من سفر , أو أن يروها عيانا , ولهذا السبب كانت رؤوس وأجساد المجرمين تعلق في الميادين وعلى بوابات المدن لفترات طويلة , فتلك كانت الوسيلة الوحيدة لنشر الخبر وإيصاله لأكبر عدد من الناس .
مهرجانات التعذيب والاعدام كانت مناسبات للفرجة والاستمتاع ! ..
التهيئة لمهرجان الموت لم تكن تبدأ من منصة الإعدام , بل من الزنزانة التي يقبع فيها المحكوم بالإعدام , إذ كانوا يهيئونه نفسيا للموت الذي سيتجرعه قريبا , فكان يأتيه قس ليسمع اعترافاته ويلقنه بعض الصلوات وقد يبقى معه حتى اللحظة الأخيرة . وكانوا يسمحون للمحكوم بوجبة أخيرة يأكل فيها ما يطيب له من طعام . ثم يأتي الجلاد ليزوره ويطلب منه المغفرة , ويتبادل الاثنان أطراف الحديث , فيسأل المحكوم عادة عن خطوات ومراحل تنفيذ الحكم .. وهل سيشعر بألم ؟ .. وهل سيطول عذابه ؟ .. وقد لا يكتفي الجلاد بالإجابة نظريا , بل يقوم بفحص عنق المدان من ناحية السمك والطول ليقرر ما سيتطلبه الأمر من جهد ووقت , وليس غريبا أن يعطي المحكوم بقشيشا للجلاد كي يحرص على أن لا يطيل عذابه وينهي الأمر بضربة واحدة .
وعندما يحين موعد إجراء الحكم يخرج المحكوم بمعية الجلاد والقس والحرس فيسيرون من السجن نحو الميدان الذي سينفذ فيه الحكم . ويختلف شكل هذه المسيرة من محكوم لآخر , فالمجرمين الخطرين قد يوضعون في قفص , وربما تم سحل البعض منهم , خصوصا أولئك الذين يجب أن يعذبوا قبل أن يعدموا . لكن غالبية المحكومين يسيرون على أقدامهم حتى المنصة ما لم يفقدوا رباطة جأشهم فيقعدهم الرعب عن المشي , وفي هذه الحالة يتم حملهم عنوة . وقد لا تخلو هذه المسيرة من هتافات أو شتائم أو أشياء تلقى على المحكوم لو كان مكروها , أو على الجلاد والحرس فيما لو كان المحكوم محبوبا . ثم يصل الموكب إلى الميدان فيصعد المحكوم مع الجلاد إلى المنصة , وعادة ما يسبق إجراء الحكم قراءة قرار المحكمة الذي يبين جرائم المدان . ثم يقوم الجلاد بضبط وضعية المحكوم , كأن يبقيه واقفا , أو يجعله راكعا , أو بهيئة السجود , والنساء عادة ما يتم إجلاسهن على كرسي . وقد يلجأ الجلاد لربط المحكوم إذا ما فقد أعصابه وأنهار , وقد يقوم بتكبيله ثم يمد عنقه فوق خشبة عريضة . وما أن يتم ضبط الوضعية حتى تقرع الطبول , وتحبس الأنفاس , وتشرأب الأعناق , ويرفع الجلاد سيفه أو فأسه عاليا في الهواء لبضعة لحظات , ثم يهوي به كالبرق الخاطف على عنق الضحية , فيتدحرج الرأس وتتخضب الأرض بالدماء . ثم يمسك الجلاد بالرأس المقطوع من شعره ويرفعه عاليا ليراه الجميع , وقد يوضع الرأس فوق سارية لفترة من الزمن , أو يدفن فورا مع الجسد .
هذه العملية , أي فصل الرأس عن الجسد , لا تستغرق سوى ثواني معدودة , لكنها تكون أهم جزء في العرض بأسره , فلأجلها أجتمع الناس , وعليها تتوقف سمعة الجلاد , ولهذا يحرص على أن تجري على أحسن وجه , فالعرض السيئ يجعل سلوك المتفرجين عدوانيا , وقد تخرج الأمور عن السيطرة , فالفشل بالضربة الأولى معناه تململ الجمهور , والفشل بالثانية يعني انهيال الشتائم والسباب من كل صوب وحدب , والفشل بالثالثة سيجلب معه الحجارة وقشور الفواكه العفنة , أما الفشل بالرابعة فقد يؤدي بالجمهور إلى صعود المنصة ليذيقوا الجلاد من نفس الكأس الذي يحاول هو أن يسقيها لضحيته .
ومن حسن حظ بطل قصتنا فأن هذه الإخفاقات كانت نادرة في حياته , فهو لم يحتج لثلاث ضربات إلا لمرة واحدة , حدث ذلك عند إعدامه لامرأة تدعى إليزابيث مختيلن كانت المحكمة قد أدانتها بزنا المحارم مع أخويها , وهي تهمة غالبا ما يلفقها حكام ذلك الزمان للناس الأثرياء من اجل قتلهم ومصادرة أموالهم .
فرانز شميت نال شهرة واسعة بين الجلادين لأنه ترك مذكرات بتفاصيل كاملة عن حياته وعن الـ 361 عملية إعدام التي نفذها خلال حياته , والكتاب الذي تركه فرانز يعد من النوادر لأنه الجلادون لا يتركون في العادة ورائهم مذكرات .. خصوصا في العصور القديمة .
فرانز شميدت تزوج ابنة جلاد مثله وأنجب منها عددا من الأطفال , ولاحقا في حياته أشتغل بالطب بعد أن تقدم به العمر وأعتزل عمله كجلاد وقد نال ثراءا واحتراما كبيرا بين الناس , وفارق الحياة عام 1634 .
شخصية أخرى امتهنت هذا العمل في عصر أكثر حداثة وبإتقان أكبر هو أنتول ديبلي Anatole Deibler الذي يعتبر أحد أشهر الجلادين الفرنسيين ممن عملوا تحت إشراف مصلحة السجون بفرنسا. ليس لكثر عدد المحكومين الذين أعدموا على يده فحسب, والبالغ عددهم 395 شخصا إلى حدود سنة 1939. بل أيضا لمدى التطور التقني و العلمي الذي شهده العالم مع بدايات القرن العشرين. فأعتمد أنتول على المقصلة لقطع كل تلك الرؤوس. إذ لم يعد استعمال الفأس متداولا بعد أن أشيع استخدام المقصلة خلال الثورة الفرنسية فكانت أكثر سرعة وأقل إحداثا للفوضى .
تغير الزمان وتبدل الأذواق جعل من الغريب بمكان تنفيذ أحكام الإعدام في ساحات عمومية على الملأ و أمام الكثير من الفضوليين بما في ذلك بعض الصحفيين الساعين لنشر صور الضحايا و الجلاد للحصول على سبق صحفي وبيع أكبر عدد من نسخ الصحف التي يعملون فيها .
لقد خرجت شخصية الجلاد من قالب العصور الوسطى حيث الصورة القاتمة واللاإنسانية إلى قالب مختلف في عصر أكثر حداثة يعتمد فيه الناس على السيارات والطائرات في تنقلاتهم وعلى الصور الفوتوغرافية لتخليد ذكراهم.
رؤوس مقطوعة بالمقصلة .. في الاعلى للسفاح الالماني فريتز هارمان .. وفي الاسفل الاخوان بوليت .. لصوص وقطاع طريق
ولد أنتول ديبلي سنة 1863 وعانى من طفولة غير سعيدة وهو يعمل منذ نعومة أظافره في مصانع النسيج. وحين تجاوز العشرين عاما أدى الخدمة العسكرية قبل أن يقرر امتهان عمل الأجداد ألا وهو أن يكون جلادا. فألتحق بجده لأمه أنطوان راسينو Antoine Rasseneux بمستعمرة فرنسا بالجزائر والذي نفذ بدوره الكثير من الأحكام ضد المناضلين الأبطال بالجزائر. هنالك تعلم أنتول المهنة من جده ونفذ 18 حكما بقطع الرأس. وبعد أن زكاه والده لويس ديبلي Louis Deibler لمهنة مساعد جلاد عاد إلى فرنسا و إلتحق بعمله الجديد حيث ساعد في تنفيذ حوالي 80 حكما.
في ربيع عام1898 تزوج أنتول من روزالي روجي وقام بتوظيف أخويها لويس و أجين كمساعدين له. وهكذا بقي العمل داخل العائلة.
بعد تقاعد والده, كلف أنتول رسميا كمسئول أول على تنفيذ أحكام الإعدام بفرنسا. تلك الليلة من لم ينم بل ضل منتظرا أول خيوط فجر يوم السبت من منتصف شهر يناير سنة 1899 لينفذ أول مهمة خاصة به.
في الصباح الباكر وضعت المقصلة أمام المدخل الرئيسي للسجن وتجمع الناس من كل حدب وصوب.
تقدم أنتول من الضحية بخطى غير ثابتة لكنه حاول أن يحافظ على رباطة جأشه. ولقد وصفته الصحف الصادرة في ذلك اليوم " بالشاب الثلاثيني الأنيق صاحب القبعة السوداء وطقم الملابس الرسمي".
لكن أنتول كان عكس تلك الصورة الهادئة فبعد أن تلى الضابط المسئول عن العملية طبيعة جرائم المتهم وموجبات الحكم عليه أعطيت الإشارة لأنتول لكي ينفذ الحكم . وبيدين مرتجفتين أنزل المقصلة سريعا وبقوة إلى درجة أن وجهه ويديه تلطخوا بالدماء. ومرت لحظات صمت نظر الجميع فيها إلى بعضهم البعض. فطلب أنتول من مساعده لويس بعض المياه ليغتسل وكانت عملية الإعدام الدموية تلك هي بداية رحلة طويلة من قطع الرؤوس استمرت لأكثر من نصف قرن وأنتهت على رصيف محطة القطارات بورت دوسان كلود Porte de Saint-Cloud حيث كان انتول متوجها إلى عمله كالعادة في سجن راين , كان عليه أن ينفذ الإعدام بحق المتهم موريس بيلغور , لكنه لم يصل أبدا إلى وجهته .. سقط أنتول ديبلي على الرصيف وفارق الحياة تاركا وراءه قائمة طويلة بأسماء أناس أنهى حياتهم , وسواء كانوا مذنبين أم أبرياء فهو لم يتأخر يوما في أداء عمله.
في النهاية قد لا يخلو عمل الجلاد من وحشية وقوة شخصية لكنه بكل تأكيد ليس من الأعمال التي يمكن نسيان تفاصيلها بسهولة ما أن ينهيها صاحبها ويعود إلى منزله , فهي بلا شك تحفر داخل الإنسان جروحا غائرة قد لا يتخلص منها أبدا...
0 التعليقات:
إرسال تعليق