تاريخنا المزور
(الجزء 18)
بسم الله الرحمن للرحيم
يقول المؤرّخون أنّ الإسكندر المقدوني بكى حين دخلت جيوشه أرض الهند، لأنّه بذلك كان قد أخضع كلّ أرضٍ معمورةٍ في أيّامه، فلم تعد ثمّة أقاليمٍ يغزوها ويسودها. ولكن يوجد من الأدلّة ما يُثبِت أنّ جيوشه كانت قد هُزِمت أمام الجيوش الهنديّة، وأنّه اضطرّ إلى أن يرجع القهقرى مهزوماً.
كما أراد المؤرّخون الإشادة بشجاعة الإغريق وبسالتهم، فيؤكّدون أنّه حين احتشدت جيوش الفُرس الزاحفة تحت أمرة (اكزرسيس) عند ممرّ (ترموبيلي)، تصدّى لها ثلاثمائة إغريقيّ فقط ! فانهالوا على كتائب الفُرس تقتيلاً حتّى كادوا يردّونها على أعقابها. ولكن البحث التاريخيّ يُثبت أنّ جنود الإغريق لم يكونوا ثلاثمائة، بل كانوا اثني عشر ألف جندي على الأقل. وأنّهم لم يصمدوا لقوّات الفرس التي أودت بهم جميعاً.
وبالغوا في الحطّ من تاريخ (نيرون) حتّى صار مضرب المثل في البغيّ والعسف. فاتّهموه بأنّه أمر بقتل أمّه، مع أنّها قُتلت دون أن يدري، اتّهموه بأنّه أمر بإحراق روما ليشاهد النيران تلتهم معالمها وتفتك بأهلها، بينما هو ينشد الأغاني ويعزف على (الكمان) لاهياً. والحقّ أنّ النار التي أحرقت روما شبّت قضاءاً وقدراً، وأمّا (الكمان) فلم يُخترَع إلاّ بعد عهده بمئات السنين!
وأضفى المؤرّخون على (قسطنطين الأوّل) صفات القداسة، فلم يعد اسمه يُنطق إلاّ مسبوقاً بلقب قدّيس..... لماذا؟ ألأنّه قتل زوجته، وولدين من أولاده، ونفراً جمّاً من أهله؟
كما قام المؤرّخون بتقديم مفهومٍ سطحيّ للحروب الصليبيّة، حيث اختزلوه إلى بُعدٍ دينيٍّ فقط، ودوّنوها على أنّها الحروب التي وقعت في سورية في نهاية القرن الحادي عشر. بينما هي بمفهومها العلميّ الحروب التي ارتكزت على أسسٍ اقتصاديّة سلطويّة توسّعيّة كما هي دينيّة. تعود إلى القرن الثامن، بدأت معاركها الأولى في سهل (اللوار) و(الرين)، وُجّهت نحو الوثنيّة بادئ الأمر، ثمّ إلى إلى الإسلام والوثنيّة معاً، ثمّ إلى الإسلام وحده بعد انحلال الوثنيّة، ولم تكن المعارك المتوالية التي وقعت في سورية ومصر بين المسلمين والفرنج منذ وجود (فروادى بويون) إلى (لويس التاسع) إلاّ طوراً من أطوار ذلك الصراع العامّ. ففي الوقت الذي انهارت فيه صروح العالم الرومانيّ الشامخة لأسبابٍ عدّة، انقضّ الإسلام على أنقاضها في آسيا ة أفريقيا وشادوا منها دولاً جديدة. ثمّ حاول أن ينفذ إلى سويداء النصرانيّة من المشرق والمغرب معاً، فلاقى خيبته الحاسمة في المشرق أمام أسوار القسطنطينيّة، ولاقى ذات الهزيمة في الغرب فوق ضفاف (اللوار)، وارتدّت الوثنيّة في نفس الوقت على ضفاف (الرين) أمام نفس أولئك الفرنج الذين وقفوا فلإسلام سدّاً.فوق هذه البسائط وفي مهاد تلك المعارك الحاسمة، معارك الحياة والموت، قدّرت النثرانيّة فداحة الخطر الذي يهدّد كيانها من تدفّق الإسلام والوثنيّة، لتنشأ في المجتمع النصرانيّ فكرة صراعٍ غامضة استحالت إلى فكرة الحروب الصليبيّة.
تزوير الوثائق التاريخيّة:
من الحوادث الهامّة والشهيرة في تزييف الوثائق، ما أقدم عليه (لوكاس فرين) في فرنسا، حيث قام بتزييف وثائقٍ عدّة وباعها إلى المؤرّخين ذوي الشأن آنذاك في فرنسا والعالم الحديث وعلى رأسهم العلاّمة (ميشيل شال) على أنّها قديمة وبخطّ كاتبيها ومنها : كتاب من الإسكندر المقدونيّ إلى أرساطاطاليس، وأيضاً خطاب من جان دارك إلى الشعب الفرنسي، وباقي الوثائق كانت قد بلغت 27320 خطاباً منسوبة إلى 660 شخصاً من مشاهير التاريخ، وقد تمّ فكّ ملابسات تلك الوثائقو البتّ بقضيّة التزييف هذه فلاقى صانعها مصير السجنلا شكّ أنّ وثائق (لوكاس فرين) تمّ معرفة زيفها بتعيين المعنى الخاص للكلمات في الوثيقة، إذ لم يكن متوفّر في ذاك العهد أدوات قياس عمر المواد كالإستعانة بالمواد المشعّة.
يقوم الكشف اللغوي في الوثيقة على مبادئ بسيطةٍ جدّاً وأهمّها :
1-إنّ اللغة في تطوّر مستمر من شأنه أن يفسدها. ولكلّ عصر لغته الخاصّة، ينبغي النظر إليها على أنّها نظام خاص من الرموز والعلامات. وعلى هذا فإنّه لفهم وثيقةٍ ما، يتوجّب معرفة لغة العصر، أعني معنى الألفاظ والصيغ في العصر الذي كتبت فيه الوثيقة - ومعنى اللفظ يتعيّن بجمع المواضع التي استعمل فيها، وسنجد غالباً موضعاً فيه باقي الجملة لا يدع شكّاً في المعنى المقصود.
2-الإستعمال اللغوي يمكن أن يختلف من إقليم إلى آخر، ولهذا يجب معرفة لغة الإقليم الذي كتبت فيه الوثيقة، أي المعاني الخاصّة المستعملة بها الألفاظ في الأقاليم المختلفة
3-لكلّ مؤلّف طريقته الخاصّة في الكتابة، ولهذا يجب أن ندرس لغة المؤلّف، والمعنى الخاص الذي استعمل به الكلمات.
4-التعبير يختلف معناه بحسب الموضوع الذي يوجد فيه، ولهذا ينبغي أن تفسّر كل كلمة وكل جملة لا مفردة، بل بحسب المعنى العام للفقرة (السياق) وقاعدة السياق هذه : ينبغي ألاّ نفصل كلمتين عن سياقهما، وإلاّ فهذه الوسيلة للغلط في معنييهما، وهذه قاعدة أساسيّة في التفسير، وتقتضي بأنّه قبل أن نستعمل جملة من نص أن نقرأ النص كلّه أوّلاً، ويحظر التقاط الإقتباسات وإدراجها في عمل حديث، أي التقاط شذرات من جمل منتزعة من فقرة لا ندري ما المعنى الخاص الذي لها فيها.
في مجلّة شتيرن عام 1983في العشرين من نيسان 1945 كانت برلين تحترق وفي ذاك الوقت أمر هتلر بأن تحرق كلّ أوراقه الشخصيّة والرسميّة وقد أقرّ خبراءالحكومة الألمانيّة فيما بعد بالتزييف الصارخ الذي أرجحوا أنّه تمّ في عام 1964البعض من مسرحيّات شكسبير كما اكتشف البروفيسور (دوفر ويلسون 9 والبروفيسور (بولارد) قد كانت موجودة فعلاً قبل عام 1953 بأقلام غير شكسبيريّة كمثل مسرحيّة (هنري الخامس) و(روميو وجولييت) و(هاملت), وأنّ ما فعله شكسبير هو أنّه قوّمها وأصلحها، حيث جعلها على الشاكلة الموجودة لدينا الآن.
تدفعنا هذه الأمثلة للتساؤل عمّا بحوزتنا من وثائق تدّعي القِدّم والأسبقيّة، فحريٌّ بنا،قبل أن نهزأ بباقي المؤلّفات المزوَّرة، أن ننظر إلى ما في جعبتنا، ونباشر بالفحص والتدقيق والتمحيص.
تمحيص التاريخ
في الفترة التي أعقبت الحرب العالميّة الأولى وإلى قيام الحرب العالميّة الثانية، أدركت بعض الأمم أنّ كتابة التاريخ يجب أن يكون تحت إشراف عصبة الأمم ومعهد التعاون الفكري، ثمّ بعد الحرب الثانية توبع العمل تحت رعاية هيئة الأمم المتحدة ومنظّمة الأونيسكو، ولكن ظهر أن التواريخ المدوّنة لم تكن تضمن الغاية المنشودة من المصداقيّة، لأنّها لم تكن تكتب بإخلاص بل بتحيّز واتّجاه معيّن ألا وهو تمجيد أعمال الوطن وتبرير أخطائه، ونقد أعمال وسياسة سائر البلدان ولا سيّما عندما لا تتماشى ومصالحه. وبذلك أصبح التاريخ وسيلة للتضليل لا للتعريف بالحقائق وتكوين مجتمع صالح. ومثال ذلك أنّ كلّ شخصٍ يقرأ في تاريخ بلاده أنّها كانت عُرضةً للمظالم والمطامع، وضحيّةً بريئة للغاصبين، وقلّما يجد ذِكراً للأخطاء التي ارتكبتها، والحروب التي يجب أن تتحمّل مسؤوليّتها، والفظائع التي لم تبالِ بارتكابها، ولئن جاء ذِكر شيءٍ من هذا فإنّما يكون في مقام المُدافِع لا المُعتدي
يتبع بإذن الله ....
0 التعليقات:
إرسال تعليق