تاريخنا المزور (الجزء 17)



تاريخنا المزور

(الجزء 17)

بسم الله الرحمن الرحيم

ممّا تقدّم نلخص إلى :إن غاية التاريخ هي إدراك الماضي كما كان، لا كما نتوهّم انّه كان، لهذا لا بدّ من مستوىً عالٍ من المنهجيّة التاريخيّة. فلا تاريخ بدون بحثٍ عميق واستقصاءٍ عريض، كما أنّه لا تاريخ بدون نقد. وهذه المنهجيّة تقتضي مزيداً من العلميّة، بمعنى تسليط منطق العلم على التاريخ, فلا بدّ إذاً من الموضوعيّة، نرى أنّ بعض علماء الحديث قد شرعوا في الإهتمام بالموضوعيّة، وتحرّي الحقيقة فيما يذهبون إليه، كما حرصوا على التأكيد من الأخبار والروايات، فسلّطوا عليها سيف النقد، وأوجدوا ما عُرِفَ بعلم الجرح والتعديل.من المتطلّبات الأساسيّة في التأريخ، ميّزة التجرّد. حيث أنّها مزيّة مطلوبة في كلّ علم، مفروضة على كلّ باحث, والتجرّد يلزمه الحرّيّة لكتابة التاريخ، هذه الحرّيّة التي تحرّر افنسان من سجن التاريخ، إذ لا بدّ منها حتّى نكتب تاريخنا بموضوعيّة وصدق, ومن أجل أن تتلاقح الآراء للوصول من خلال الحوار إلى الحقائق، وإلاّ فسيبقى التاريخ مكبّلاً آسراً لنا ولطاقاتنا، وأسيراً لمغالطاتنا وأوهامنا.الدقّة في النقل، والدقّة في التفكير والتعبير، شرط أساسيّ صريح من شروط أيّ بحثٍ علميّ، وهي في صميم تقليد العلم المتراكم، ومن أهمّ عوامل تقدّمه ورقيّه. 
والدقّة تتطلّب تفسير الأحداث التاريخيّة وتحليلها تحليلاً دقيقاً، فلا ينبغي الإكتفاء بذكر الأحداث بدقّة، بل لا بد من تفسيرها. يجدر بي هنا أن أشير إلى مسألة هامّة بالنسبة للدقّة في التفسير لدى المنهجيّة العلميّة للدراسة التاريخيّة، ألا وهي تحليل التغيّر عبر الزمن.على ضوء هذه الإعتبارات يمكن الإحاطة بكيفيّة إعادة كتابة التاريخ، للبدء في عمليّة صقل شخصيّتنا القوميّة بأصالة ووضوح.

تحريف التاريخ

حقائق التاريخ – المشتملة على جميع نواحي وجود الإنسان – لا تصل إلينا مطلقاً بصورة بحتة، لأنّها لا توجد ولا يمكن أن توجد بصورة بحتة، فالماضي لم يعد موجوداً، ولكن يمكن تتبّعه بفضل الطرق الفنّيّة التي تعطينا أدلّة تمدّنا بها العلوم الطبيعيّة والتقنيّة، عن طريق البحث العلمي في الآثار الماديّة الباقية، وأيضاً نقرأه في المؤلّفات والوثائق التاريخيّة، ولكن علينا أن نعي أن الحقائق التي وصلت إلينا بشكلٍ مكتوب تنعكس من خلال ذهن من قام بتدوينها، فيترتّب على ذلك أنّنا إذا ما تناولنا في البحث عملاً تاريخيّاً يجب أن لا يكون اهتمامنا الأوّل منصبّاً على الحقائق التي يتضمّنها، وإنّما على المؤرّخ أو المؤلّف الذي كتبها. فغالباً ما يستعين المؤرّخ بخياله في إتمام الوقائع وتأويلها، فهو يصل إلى نتائج كان يرمي إليها منذ البداية متأثّراً بأهواءه، يهديه إيمانه أكثر ممّا يهديه حبّ استطلاعه، فخياله في تأويل الوقائع ليس محايداً.

يرى الباحث المنقّب من خلال ما رواه المؤرّخون المثبتون، وما ذكرته مؤلّفاتهم، أنّه ليس إلاّ أحاديث خرافة أو أقاصيصٌ مُفتراة، كانوا قد قصدوا منها إلى تمجيد فريقٍ من الناس تمجيداً فيه أطنابٌ وأسراف، وإلى تحقير فريقٍ آخر تحقيراً لا إنصاف فيه. ثمّ تدال الناس هذه المفتريات أجيالاً تلو أجيال، فقرّت في أذهانهم كأنّها حقائق، حتّى قام بعضٌ من علماء وباحثي هذا العصر بالتنقيب عن آثار الماضي وفحص أسانيده، واستعانوا بالعلوم المساعدة كعلم الآثار والأبيغرافيا والكرونولوجيا وغيرها، مرتكزين بذلك على أدوات العقل في التفكير المنطقيّ من تحليل وتفكيك وتركيب، إلى مقارنة وقياس وتمحيص، فأماطوا اللثام عن كثيرٍ من تلك الأكاذيب الذائعة، فبيّنوا لنا أن المؤرّخين القدماء قد عظّموا أناساً لا يستأهلون التعظيم، وظلموا آخرين لم يقترفوا ما نُسِبَ إليهم زوراً.إنّ عدم المصداقيّة التي دوّن بها أولئك المؤرّخين، إنّما تعود على فشلهم في تحرير أنفسهم من العوامل المؤقّتة الدخيلة على الإنسان، وعلى رأسها الوطن والدِّين. كما ترجع أيضاً على من قام منهم بتلبية أهواء الملوك والقادة المُغرضة.إنّ المؤرِّخ كغيره من النّاس، يتأثّر بالدّين الذي وَجَدَ نفسه مُلزَماً باعتناقه، كما يتأثّر بمعطيات الوطن الذي ورثه، وأخلاقيّات وسلوكيّات الجماعة التي ينتمي إليها.و لا يجدر بنا أن نصبّ عمليّة البحث التاريخيّ على العنصر الوثائقيّ فقط، إذ من الأحرى بنا أن نولي بالدراسة شخص المؤرّخ أو المؤلّف ذاته، وأهواءه المستمَدّة من بيئته، مراعين بذلك الطبيعة الظرفيّة الزمكانيّة آنذاك. وبما أنّه لم يحدث تغييرٌ جليلٌ في طبيعة الأمزجة الإجتماعيّة في الفترات التي عاشها من عاصر ونقل ما وصل إلينا من وثائق وأخبار، حتّى يومنا هذا، فإنّه من السهل القيام بالمقارنات وتحليل الماضي الُمنصرم على ضوء الحاضر المُعاش.

إنّ ما يدفع المؤرّخين عادةً إلى التحريف والكذب (مؤلّفي الوثائق – مدوّني الوقائع) هو :
1-أن يحاول المؤلِّف أن يجتلب لنفسه منفعةً عمليّة، ويريد أن يخدع القارئ للوثيقة لدفعه إلى القيام بعمل أو صرفه عنه. ولتحديد الأقوال المتّهمة ينبغي أن نتساءل عن المصلحة التي اعتقد المؤلِّف نفسه أنّها له، وذلك عن طريق البخث في ميوله الفرديّة التي اكتسبها من ميول الجماعة التي ينتمي إليها، كالأسرة، الإقليم، الوطن، الطبقة الإجتماعيّة، الدين السائد، الحزب السياسيّ. ولكنّ هذه الإنتماءات قد تتعارض مصالحها أحياناً، فيجب علينا أن نميّز الجماعة التي يتشيّع إليها أكثر من غيرها، والتي كان يعمل لها.
2-أن يكون المؤلَّف في موقفٍ أرغمه على الكذب، وهذا ينطبق على جميع الحالات التي يكون فيها في حاجةٍ إلى كتابة ما يتوافق مع القواعد والعادات الشائعة.
3-أن يكون المؤلِّف يستشعر عطفاً أو كراهيةً لجماعةٍ من الناس (أمّة، أسرة، فرقة، مدينة، إقليم، حزب) أو لمجموعٍ من المذاهب والمؤسّسات (دين، فلسفة، فرقة سياسيّة)، ما دفعه إلى تشويه الوقائع ابتغاءَ أن يُعطي فكرةً حسنةً عن أصدقائه، وسيّئةً عن خصومه في الإنتماء أو التوجُّه.
4-أن يكون المؤلّف قد انساق وراء غرورٍ فرديٍّ أو جماعيّ، فكذب ابتغاء تمجيد شخصه أو الجماعة التي ينتمي إليها، وقال ما اعتقد أن يُحدِث في القارئ تأثيراً ينطوي على ما يؤكّد أنّه هو أو بني جماعته كانوا ذوي مناقب جليلة. وهنا لا يصحّ، عند البحث في هذه النقطة، القيام بعمليّة قياس الغايات إن قمنا بتقمّص دوره، فلعلّه إنّما كذب ابتغاء أن ينسب لنفسه ولقومه أفعالاً تبدو لنا ذميمةً شائنة، بينما كانت هي بالنسبة إليه ولقومه أفعالاً محمودة، والأمثلة في هذا كثيرةٌ سواء في التاريخ القديم أم الحديث منه.
5-أن يكون المؤلّف أراد تملُّق الجمهور، أو على الأقل أراد أن يتجنّب الصدام معه. فتراه يُعّبِّر عن العواطف والأفكار المتّفقة مع أخلاق جمهوره والبدع السائدة عنده. حتّى وإن كان هو ذا عواطف وأفكارٍ مخالفة، فإنّه يشوّه الوقائع ويلائم النصّ ابتغاء التكيّف مع أهواء جمهوره.6- أن يكون المؤلّف قد حاول تملُّق الجمهور بميولٍ أدبيّةٍ، فشوّه الوقائع لجعلها أجمل حسب تصوّره للجمال وبحسب الذائقة العامّة المعاصرة لمؤلّفاته.و لدينا في تاريخنا في هذا الشأن مثالٌ بارزٌ صَبَغَ التاريخ من بعده بلون ما شوّه للأسباب التي ذكرناها.

ومن الأنواع المعتادة في التشويه الأدبي :
- التشويه الخطابيّ : وهو أن ننسب إلى الأشخاص مواقفاً وأعمالاً وعواطفاً، بكلماتٍ تنمُّ عن النُبل، وهذا ميلٌ معهودٌ لدى مبتدئي فنّ الكتابة والتأليف.
- التشويه الملحمتيّ : هو أن يُجمِّل الحكايا بإضافة تفاصيلٍ جذّابةٍ مشوّقةٍ، وخِطَبٍ يدّعي أنّ أناساً ألقوها، وأسماء أشخاصٍ وحتّى أرقاماً، وذلك أنّ ذِكر تفاصيل دقيقة توهم الصدق.
- التشويه الدرامي : وهو أخطر أنواع التشويه، حيث يحشد المؤلّف الوقائع ابتغاء زيادة قوّتها الحبكويّة، وذلك بأن يركّز على لحظةٍ واحدةٍ أو شخصٍ واحدٍ أو جماعةٍ واحدةٍ، وقائع مشتّتة.

وفي المقال القادم سندرج بعضاً من الأمثلة التي نالت قسطاً كبيراً من التزييف، وتناقلتها الأجيال بالتواتر وبالتسليم بما قد كُتِب 

يتبع بإذن الله.. .

0 التعليقات:

إرسال تعليق