تاريخنا المزور ( الجزء 20 )




تاريخنا المزور

( الجزء 20 )

بسم الله الرحمن الرحيم

أهواء المؤرّخين

ينطلق المؤرخين من مقدّمات واحدة ولكنّهم يصلون إلى غاياتٍ مختلة، وكلٌّ منهم يفترض أن الغاية التي بلغها هي الصحيحة المنشودة. فالإقتناع يمكن نعتبره نتيجة يعتقد صاحبها أنّها صحيحة عن إحساسٍ شخصيّ، إمّا لأسباب عاطفيّة أو ذهنيّة، قد يضمرها أو يعلنها، ممّا يجعل كلّ اختصام حالة قائمة بذاتها، تتوقّف على طبيعة الموقف والتفسير أو التأويل أو السياسة التي تكمن وراء القضيّة. وهذا على خلاف ما في المسائل الرياضيّة، فلا يمكن أن يكون هناك اختصام في النتيجة لأنّ المقدّمات محدّدة، وقواعد الإستدلال ثابتة، فيكون الجواب محتوماً. ولهذا لا يقوم خلاف بشأن المسائل الرياضيّة. فالفرق بين الأمرين هو مسألة تحديد عناصر القضيّة المختلف عليها، فهي لا توضع في الغالب وضعاً محدّداً دقيقاً، كمثل أن يقوم فريقين بقياس ارتفاع قمّة جبل بأجهزة المساحة، فقد يحدث بينهما اتّفاقٌ كامل، أو يقع بينهما اختلافٌ هيّن. أمّا إذا كان الإختلاف كبيراً في النتيجتين، فيكون أحد الفريقين قد أخطأ في الملاحظة أو الحساب، ومتى صُحّح الخطأ عاد الإتّفاق بينهما. ذلك أن مسألة القياس هذه خارجة عن نطاق الإختصام، لأنّها تقاس بوسائل متّفق عليها، فنحن هنا لسنا بصدد نظريّة أو تأويل، بل بصدد واقع لا خلاف عليه. ولو أنّ جميع ما يتعلّق بالإهتمام البشريّ كان من هذا القبيل، لاختفت الخصومات وأصبحت أنواع الإقتناع واحدة، لحصول الإقتناع دائماً على أشياء واحدة.

إنّ اختلاف المقاصد والعقبات التي تحول دون توافقها وتجانسها من أهمّ موانع الإتّفاق على نتائج واحدة. والحقيقة أنّ الإختلاف في تأويل عناصر القضيّة الفكريّة أخطر بكثير من الإختلاف على العناصر نفسها. فقد يتّفق الناس على العناصر من حيث هي، ولكن تأويلهم لكلّ منها هو سبب الإختلاف الذي لا يرجى معه اتّفاق. فالتأويل هو الذي يدخل العنصر الذاتيّ في القضيّة. لأنّ لكلٍّ من المتخاصمين هدفه الخاص من القضيّة ومقصده الشخصيّ. فليس الهدف بين المتخاصمين على الدوام واضحاً مثل قياس ارتفاع جبل. وليست أدوات الحكم دائماً ممّا يركن إليه كأجهزة المساحة.

إنّ التحليل والتركيب يتمّ بهما تجزئة المواقف أو المفهومات، ثمّ إعادة إنشائها في صيغة جديدة، وهذا ما يتمثّل في الإتجاه العلمي في التاريخ، حيث يقوم المؤرّخ بباستخدام أدوات التفكير ويستعين بالملاحظة والذاكرة والمخيّلة، وفي هذه العمليّات جميعاً لا بدّ من خيوطٍ رابطة، يسمّيها علماء النفس عمليّة التداعي أو الترابط. ولا توجد قواعد ثابتة للتداعي السديد، الذي نقوم بالإستناد على نتائجه بالحكم على المعطيات.

والحكم هوعبارة عن تمييز تضاف له قيمة معنويّة، مثل الصواب والخطأ، والجودة والخسّة.و لكن كثيراً ما يقوم النّاس بالحكم بأحكامٍ متباينةٍ على ذات الأشياء، وهذا مرجعه الدوافع التي توجّهنا لإطلاق الأحكام انطلاقاً من ذواتنا، وليس ارتكازاً على ماهيّة الشيء أو الموقف أو الفعل الذي نقوم بالحكم عليه. الأفعال الإنسانيّة علّتها ليس في نفسها بل لها دوافع. وهذه الكلمة الغامضة تدلّ في وقتٍ واحد على الحافز الذي يحفّز على إنجاز فعل وعلى الإمتثال الواعي الذي لدينا عن الفعل في لحظة إنجازه. ولا نستطيع أن نتخيّل دوافع إلاّ في ذهن إنسان على شكل امتثالات ٍ باطنة غامضة، مماثلة لتلك التي لدينا عن أحوالنا الداخليّة الخاصّة، ولا نستطيع أن نعبّر عنها إلاّ بكلمات، في العادة مجازيّة. 
وتلك هي الوقائع النفسيّة التي تٌسمّى باللغة العامّة : العواطف والأفكار.

وفي الوثائق نستشفّ ثلاثة أنواع من الدوافع: 

1- دوافع وتصوّرات المؤلّفين الذين عبّروا عنها.
2- الدوافع والأفكار التي نسبها المؤلّفون إلى معاصريهم الذين عاينوا أفعالهم .
3- دوافع يمكن أن نفترضها لأفعالٍ واردة في الوثائق ونتمثلها نحن لأنفسنا على غرار أفعالنا.

في القضايا التاريخيّة كثيراً ما نصل إلى نتائج غير دقيقة إمّا عن إهمال أو قصور في كفايتنا الفكريّة.

وعين الحبّ عن الأخطاء عمياء بالمزايا والمحاسن حديدة البصر. أمّا عين السخط والكراهيّة فعمياء عن المحاسن، حديدةٌ في الكشف عن العيوب والمثالب. ونحن حريّون أن نعزو صفاتٍ ومزايا مستحبّة إلى ذوات الجمال وربّات الحسن، وهنّ عاطلاتٌ من ذلك. ومن العسير علينا أيضاً أن نتبيّن مزايا حقيقيّة موجودة فعلاً في ذوات القبح.

فالعلاقات الإنسانيّة عاطفيّة إلى درجة كبيرة. ولهذا تكون الأحكام الخاصّة بهذه العلاقات ميداناً خصيباً بنشاط الأهواءو لكن مرادنا أن نعامل المشكلات العامّة بأسلوبٍ عقليّ منزّه عن الأهواء، وما يحدث عادةُ على الرغم من صدق نيّتنا في العدل أنّّنا نمزج المنطق بالهوى أو المعتقدات السابقة التي تٌسمّى بالسبقيّات. وفي النهاية نجد سنداً سليماً بعض الشيء لنتائج أحكامنا، يسانده خليطٌ متباينٌ من الميول العاطفيّة التي تجنح بنا إلى القبول بتلك النتائج.

إنّ من أسباب الهوى في التفكير التاريخيّ أننا نفكّر جميعاً، على حسب ما يتراءى لنا، والأهواء تتشرّب بها عقولنا. كما نتشرّب بالمعتقدات العامّة عن طريق الإيحاء والتقليد لمن نجعلهم قدوة لنا في سلوكنا واعتقاداتنا،و بتأثير الآراء والعواطف التي نتعرّض لها. فتفكيرنا متأثّر بصورة معقّدة وخفيّة بمشاعرنا الشخصيّة والإجتماعيّة. والآراء والعواطف تنتقل بالعدوى. والهوى يسري بسهولة ومن العسير اقتلاعه ما دامت العواطف غالبة على العقل كما هي الحال غالباُ.

ما أردنا قوله في هذا الفصل أنّ الأهواء - فيما يخصّ كتابة التاريخ - إذا ما تلاشت في فترة من الفترات لا تلبث أن تنشأ في مكانها أهواءٌ جديدة. فنحن أفراداُ وجماعاتٍ، معرّضون للهوى، بتأثير عواطفنا. وهذا الهوى تختلف درجة شدّته وتشويهه لعدالتنا وموضوعيّة نظرتنا إلى الأمور. وقد يصل تأثيره إلى حدّ المرض لدى المصابين بالبرانويا وما إلى ذلك من الأمراض العقليّة التي يتصوّر امصابون بها أنّ الواقع مشكّل على غرار أوهامهم وتصوّراتهم.

ومع ذلك فالإصابات الخفيفة بهذا الشأن مألوفة لدى المؤرّخين بل حتّى بين رجال العلم حين يتعصّبون لفروضهم ونظريّاتهم مدفوعين برغباتهم وتصوّ!راتهم على حساب الموضوعيّة فيبيتون أقلّ موضوعيّة ممّا يبدون في الظاهر.

إن معظم المؤرّخين حين يقعوا في هذا الخطأ يكونوا مخدوعين. إذ يبدأون نسيج الحقيقة بلحمة من الواقع وسداةٍ منه. ولكن بينما هم يمدّون الخيوط في عمليّة النسيج يتدخّل خيطٌ من رغباتهم أو ذاتيّتهم من حيث لا يدرون. فإذا بالنسيج يأخذ اتجاهاً ولوناً خاصّاً يميل لإعتقادهم الشخصيّ، لا للموضوعيّة الخالصة.فالمؤرّخ الذي يستخدم خياله في تأويل الوقائع وإتمامها، يهديه إيمانه أكثر ممّا يهديه حبّ استطلاعه، وخياله في تأويل الوقائع ليس محايداً، فغرضه ليس تحقيق الفروض تحقيقاً نزيهاً بل غرضه إثباتها جهد الإثبات.

وقد دفع أمر انزلاق المؤرّخين كما غيرهم من الأناس والعقول العاديّة، الدكتور (ديفيد جوردان) إلى تسجيل اتجاهات هذا النوع من التفكير الذي يصدر عن عقولٍ ذات مخيّلة خصبة ومنطق محدود، وأطلق على ذلك التفكير اسم 
(البلاهة العُليا أو الراقية)

يتبع بإذن الله...

0 التعليقات:

إرسال تعليق