تاريخنا المزور
(الجزء 16 ..)
ضرورة إعادة كتابة التاريخ
بسم الله الرحمن الرحيم
إن التاريخ إذا كان يسعى إلى إدراك الماضي البشري، فإنّ الإدراك هو غير التوهّم أو التخيّل والتصوّر، سواء أكان هذا أو ذاك عن وعي أم عن غير وعي.فالشعوب في مراحلها البدائيّة حين يغلب الوهم على المنطق العقلاني، والخيال على النقد، والتصوّر على التحقيق, تتناقل أحداث ماضيها مضخّمة مفعمة بالبطولات – بطولات الآلهة وبطولات البشر، فتروي الخرافات وتنشد الملاحم، ولا تلتزم الواقع كما حدث فعل.و لقد بقي هذا العنصر الوهميّ ملتصقاً بالمجهود التأريخي يؤثّر فيه، إلى أن انتظم علم التأريخ الحديث في القرن الأخير فدعا إلى التحرّر من هذا العنصر, وإلى مجابهة الماضي وأخباره بأدوات النقد والتحقيق التي تتميّز بها المعرفة العلميّة.و للأسف فلا تزال الكثرة من الناس تتوهّم ماضيها وماضي غيرها، ولا تدركهما أو تعيهما حقّاً.إن ما كُتب من التاريخ سواء في القديم أو في الحديث، قد أخذ شكل التركيز على الحكّام والشخصيّات، أكثر منه على الإنسان العاديّ، فبدلاً من تاريخ الشعب وجدنا ما يسمّى بتاريخ البلاط. فالكثير من جوانب تاريخنا كتبها أناس مأجورون من قبل الملوك.
كما لم نعن في كتابة تاريخنا بتاريخ الإقتصاد والإجتماع والفكر، والتي هي محاور رئيسيّة في منهاج المدرسة الحديثة في التاريخ. تلك المدرسة التي تهدف إلى الإفادة من التاريخ في إصلاح شؤون المجتمع، ووضع الحلول المناسبة لمشكلاته، بمعنى توظيف التاريخ في خدمة المستقبل، وليس دراسته من أجل الماضي كماضٍ فقط.و مع حلول منتصف القرن التاسع عشر بدا للباحث أنّه كانت هنالك محاولات جديّة لتفسير التاريخ بأسلوب علميّ، فقد برزت نظريّات طبيعيّة تؤكّد أنّ الجغرافيا والمناخ والغذاء هي الأساس الذي يشرح التطوّر الإجتماعي، وإنّه لمن الجدير بالذكر التنويه بأنّ (باكل) وهو رائد هذا الميدان لم يفته اعتبار العقل البشري كعامل من عوامل التقدّم الإجتماعي. وقد برزت في ذلك الحين بعض النظريّات الإقتصاديّة، كتلك التي قال بها كارل ماركس،
والتي تحاول أن تردّ التطوّر الإجتماعي إلى أنّه تفسير لعوامل اقتصاديّة كالإنتاج والتوزيع وصراع الطبقات الذي يخلقه الإنتاج والتوزيع. ومع أنّ أساس نظريّة ماركس وإنجلز كان ماديّاً، إلاّ انّهما أدركا حقّاً أهمّيّة العوامل الآنيّة كالعقل والنظم، واعترفا بأنهّا تلعب دوراً أساسيّاً في التاريخ. وها هو المنحى الأنثروبولوجي يغدو مهمّاً أكثر فأكثر في مجهوداتنا لفهم المجتمع البشري.
يبدأ التاريخ حين يبدأ الناس في التفكير بانقضاء الزمن ليس بمعايير السياقات الطبيعيّة - دورة الفصول، أمد الحياة البشريّة - وإنّما بوصفه سلسلة من الأحداث المحدّدة التي ينخرط فيها الناس ويؤثّرون فيها، بصورة واعية. إنّ التاريخ بكلمات (بوركهاردت) هو انقطاع مع الطبيعة يحدثه استيقاظ الوعي" فالتاريخ هو النضال المديد للإنسان - عبر استخدامه عقله - لكي يفهم بيئته ويفعل يها. ولكن الفترة الحديثة قد وسّعت هذا المفهوم، فالإنسان الآن يفهم ويفعل ليس في بيئته فحسب، وإنّما في نفسه كذلك. وقد أضاف هذا بعداً جديداً إلى التاريخ.
إنّ التاريخ المدوّن هو بمثابة سجن للإنسان، فهو يعيقه عن النظر إلى الواقع بتجرّد وموضوعيّة، لأنّه يخلط بين أفق الإنسان الفرد وأفق محيطه، يخلط بين الذّات والموضوع، بين الأنا وغير الأنا، بين العالم والمعلوم، بين النسبيّ والمطلق. وممّا يساعد على ذلك ويعزّزه - كما هو نتيجة له - هي سطحيّة التفكير، الناشئة عن تكوّن المفاهيم في العقل بطريقة انطباعيّة تقوم على التأثّر لا على الدراسة والتحليل والنقد. ونقطة الضعف هذه أصبحت ظاهرة عمّت الجموع البشريّة التي لازالت تقبع تحت وطأة القهر، سجينة ظلمات التاريخ، سجن الإنسان الأكبر، والذي ما فتئنا نجترّ صفحاته الخاوية من أيّ معنىً من معاني الإنسانيّة الإيجابيّة، التي تدفع الجموع لتحقيق العدل وإحقاق الحقّ ونشر الجمال سلوكاً والمنطق مرجعاً والعلميّة منهجاً. إذ أن أغلب الأحداث المدوّنة كانت تُعدُّ في المطابخ السياسيّة بعيدةً عن أعين الجمهور، حيث كان يجري لها من الرتوش والإخراج ما يخفي دوافعها الحقيقيّة، لتضليل الحشود ولإضفاء الشرعيّة على أفعال سلطات البطش والجشع.
إنّ ما كتب من التاريخ تنقصه الموضوعيّة، فنجد غياب العقلانيّة وتسليط أساليب النقد على هذا التاريخ، فجزء كبير من التاريخ تغلب عليه النظرة الرومانسيّة العاطفيّة، أكثر من النظرة المتّزنة العقلانيّة، واتي هي في حقيقتها تعويض عن مجابهة الحقيقة وهروب منها، تماماً كما يفعل المصاب بأحلام اليقظة.إن الأفراد والأمم عندما تكون سطوة الماضي قويّة نافذة، وصورته مستولية على النفس متحكّمة بالعقل، يتوقّف النشاط لديهم وتخفّ حيويّتهم، اكتفاءً بما حقّق وقناعةً به واستكانةً إليه، فينحصر الجهد والنشاط في محاولة إعادة مجرى التاريخ ورسم الحاضر على صورة الماضي.هذا الجمود يتطلّب أوّلاً ممارسة النقد الذاتي، ليزيل نير السطوة المتحكّمة، بتمييزه بين الصالح والفاسد، والزائل والباقي، والنافع والضار، فيغدو بذلك مبدأ النقد الذاتيّ عامل نهوضٍ أساسيّ.يقول في هذا الصدد د. قسطنطين زريق : إن للثقافة التأريخيّة المحترمة للماضي، فعل تركيز وتوطيد وتأصيل. أمّا عندما نعمد إلى نقد الماضي، فإنّها تغدو أداة إطلاقٍ وتحرير, تحرّرنا من سطوة الجهل ومن غرور الوهم والتواكل، وتهيب بنا إلى تحرّي الحقيقة مهما يكن طلبها شاقّاً وتكاليفها عسيرة. إنّها تنمّي في نفوسنا القدرة على مجابهة نتائج هذا التحدّي واستساغتها مهما يكن منظرها مؤذياً وطعمها مرّاً. إنّها تطرد الخوف من قلوبنا وتبعث فينا الجرأة وتكسبنا المتانة العقليّة والخلقيّة والنفسيّة التي تصمد أمام الواقع وتعلو عليه. إنّها تصفّي أصالتنا ممّا علق بها من أدران، وتعيد الحياة والنشاط إلى جذورها، فتجعلها أصالةً إيجابيّةً مثمرة، لا أصالة ادّعاءٍ وتيهٍ وارتداد.
إنّ التركيز والتحرير عملان متناقضان ينفي أحدهما الآخر ويزيل أثره. وإنّ ما ينتجه الأوّل من تثبيتٍ وتوطيد، ينقصه ما في الثاني من انطلاقٍ وانعتاق.إنّهما على العكس، عملان متكاملان يقوّي أحدهما الآخر وينمّيه، ولئن كان بينهما تناقضٌ واصطراعٌ داخلي، فإنّ هذا الإصطراع ذاته - هذا التجاذب والتنافر - هو عامل من عوامل النمو والإغتناء والخصب والإبداع. فكلٌّ من الإتجاهين يتغلّب بإيجابيّته على سلبيّة الآخر، فتعزّز إيجابيّة كلّ منهما وإيجابيّتهما المشتركة.و بهذا تبلغ الثقافة التأريخيّة الداعية إلى معرفة النفس ونقدها, المركّزة المحرّرة، المؤصّلة المتسامية - تبلغ هذه الثقافة غايتها، وتحدث آثارها المنشودة في الفكر والعمل، في فهم الحياة وفي صنعها.
إنّ ما يدفعنا لإعادة كتابة تاريخنا، أنّ التاريخ مقوّم من مقوّمات النهضة، وعمودٌ أساسيٌّ في الهيكل البنائي لشخصيّة الأمّة. فالتاريخ بحسب رأي المؤرّخ الفرنسي (ميشيليه) هو "رؤية من الداخل وعمليّة بثّ كاملة". فالتاريخ هو عاملٌ أساسيّ في تعميق الهويّة، فالتاريخ هو الذاكرة القوميّة للشعوب، وذاكرة الشعوب كما هي ذاكرة الأفراد، إن أصابها خلل، انسحب هذا الخلل على الكيان العام لهذه الأمة، حتّى إذا استعيدت هذه الذاكرة الجماعيّة، سهل علاج هذه الأمّة.
من هذا القول، وما يتعلّق منه بإعادة بناء الشخصيّة، ما يجعلنا نحدّد ثلاثة أمور :الأمر الأوّل أنّه لا بدّ من معرفة أبعاد تاريخنا جميعها، الجيّد منها، وغير الجيّد. فترات الإستشراق والتقدّم، وفترات الظلام والتخلّف. تماماً كما نقوم بالتعرّف على أبعاد شخصيّة مريض الذاكرة، والذي لا بدّ له من تحليلٍ كاملٍ لماضيه، حتّى يعي هذا الماضي وعياً دقيقاً، فتعود إليه ذاكرته ويستردّ عافيته. والأمر الثاني هو أنّ التاريخ المكتوب بصدق، والذي يتّصف بصفة الشموليّة، له دور كبير في تطهير الشخصيّة، فمريض الذاكرة يتطهّر من عيوبه وآفاته، إذا أخرجنا ما في لاوعيه إلى ساحة الوعي، ومافي لاشعوره إلى ساحة الشعور، فلا تعود الأمور غير المرتّبة في عقله الباطن تؤثّر تأثيراً سلبيّاً على عقله الواعي وممارساته الظاهرة.الأمر الثالث أنّه بالدراسة التحليليّة لتاريخنا، نحرّر شعبنا من الكوابح التي تشدّه إى الوراء وتعيقه عن الإنطلاق، فنحقّق له بذلك تفجيراً لطاقاته المبدعة، ونسير به نحو الثورة الحقيقيّة على الذات، هذه الثورة التي تحقّق المعجزات، وتدخل من جرّائها الشعوب التاريخ من أوسع أبوابه.و في ذلك نستطيع من خلال وعي ذاتنا، ومعرفة آفاق شخصيّتنا، والوقوف على معاني الإبداع والقوّة فيها، بعد أن نكون قد تعرّفنا على عوامل الضعف والتخلّف من أجل أن نتجنّبها ونبتعد عنها، نقوم بنهضة حقيقيّة تفعّل وجودنا لصالحنا وصالح عموم الإنسانيّة
0 التعليقات:
إرسال تعليق