تاريخنا المزور ( الجزء 19 )



تاريخنا المزور

( الجزء 19 )

بسم الله الرحمن الرحيم

وهكذا تتكوّن لدى الأخوة الأعضاء الذين تعوزه عناصر المقارنة وروح النقد، هذه الأفكار المضلِّلة وتنطبع في ذهنه, فيعتقد أنّ مواطنيه كانوا عِبر التاريخ والعصور عنوان الفضيلة, وأنّ الأمم الأخرى أممٌ معتدية ظالمة، وبذلك يُصبح هذا الإنسان شذِراً إلى غيره ’ متأثّراً بهذه الأفكار.

وبهذا الصدد قال البروفيسور (بيتر هيل) : إنّ التاريخ الذي يُدرَّس في اتّجاهٍ معيّن يصنع المتطرّفين والمتعصّبين، والتاريخ الذي يُدرَّس على وجهيه يشحذ روح النقد ويجعل المرء أكثر إنسانيّةً وإنصافاً.من هنا تتّضح ضرورة مراجعة الكتب المدرسيّة وكتابتها من جديد بتلك الروح، لأنّ أكثر ما يعانيه العالم اليوم من خلافاتٍ وبغضٍ للآخر المختلف، إنّما يرجع في أصله إلى الفكرة الأولى التي انطبعت في أذهان التلاميذ عن الشعوب الأخرى.
إنّ اكتشاف الباحث المؤرِّخ لما هو (تحت التاريخ) يساعد بالتدريج على إيجاد عالم يقدّر كلّ أصالةٍ في الفكر، ولا يقتصر على الأنواع التي كانت تقدّرها الطبقات الأرستقراطيّة فيما مضى. وفي هذا العصر الذي كثُر فيه الخوف من التغيّرات متزايدة السرعة، كثيراً ما يؤدّي هذا الخوف إلى حالة من الجمود نحسبه خطأً علامة الإستقرار، لذا فإنّ تعمّق الباحث في العقل غير الواعي للأجيال الماضية، وكيف كانت عقائدهم ونزعاتهم في تعارضٍ مع اعترافاتهم، يمكن أن يفرغ علينا تواضعاً شافياً حين ننظر إلى ذاتنا. تكوّن عمليّة الإستنباط هذه، مع الإستعانة بباقي أدوات الفكر، ما يُدعى بفلسفة التاريخ.

إنّ مجرى التاريخ متّصل غير منفصل، برغم ما يبدو لمن يقلّب صفحاته متنقّلاً بين عصوره وحوادثه، إذ يجد حروباً غيّرت وجه الأرض فأقامت ممالكَ على أنقاض ممالكٍ أخرى، ويجد ثوراتٍ هدّت معالم الإجتماع، فجعلت العالي سافلاً والسافل عالياً، ويجد طائفةً من العباقرة في السياسة والعلم والأدب برزوا على معاصريهم، وصبغوا الحضارة بصبغٍ جديدة هي صبغتهم الخاصّة.

من المعروف أنّ غريزة التملّك كانت كبيرة الأثر في جمع الثروة المادّيّة التي اقتضاها سير الحضارة وانتقالها من أدوارها الأولى. ولا تزال ثمّة شعوب وجماعاتٍ لا تسدّ رمقها ولا تصيب مساك عيشها، إلاّ من الصيد وجمع الثمار البرّيّة، كقبائل (البونان) في (بورنيو) وهم سكّان الغابات، ومن الملاحظ أنّهم امتازوابالرقّة ولطف المعشر، فلا تجد حروباً نشبت مع غيرهم ولا نزاعاتٍ بينهم. ذلك أنّ غريزة التملّك لم تلعب دوراً كبيراً في مسالك حياتهم. فعندما بدأ الإنسان بانتقالٍ مرحليّ في ممارسة الزراعة، أخذت هذه الغريزة تُحدِث أكبر الأثر في الجماعة، وذلك لكون الحبوب والغلال تصلح للإختزان كضربٍ من الثورة، وأكثر الحضارات التي نمت وتطوّرت كثيراً ما قامت على أساس جمع الحبوب واختزان الغلال. فكانت الحبوب من أهمّ رؤوس الأموال وأكبر السلع التجاريّة شأناً، ولا يخفى ما كان لتجارة من أثرٍ بالغٍ في التطوّر الإجتماعيّ. وكان من أثر تلك الغريزة قيام الجماعات البشريّة بتحرّكاتٍ رسمت مناحٍ عدّة في وجه المعمورة، ولعلّ أكثر صفحات التاريخ البشريّ مستغرقة في وصف قصّة انتشار الإنسان وهجرته وغزوه وفتوحاته واستعماره.الإنتشار، وعلى خلاف الهجرة, هو انتقال الجماعات إلى أصقاعٍ غير مأهولة للإستيطان فيها. أمّا الغزو فكان دخول أقوامٍ عنوةً أرض أقوامٍ أخرى أوفر منهم ثروةً وأكثر ثقافةً ز وكان الفتح إغارة قُبيلٍ من النّاس استقرّ!وا وأثّروا كالرومان على بلاد قومٍ آخرين دونهم في الثقافة والرخاء كالغال لسيادتهم وحُكمهم والظفر بسلطان المجد وابتزاز مواردهم أيضاً. ويقتضي الغزو ذهاب شطرٍ من القوم الغازين أو انتقالهم جميعاً إلى الأرض الجديدة للإستقرار فيها، أمّا الفتح فإنّ الفاتحين لا يغيّرون مقامهم إلاّ على القدر الكافي للإشراف على البلد المفتوح واستغلال موارده.

إنّ كثرة التزاوج بين الغزاة والمغزوّين أحدثت آثارها البيولوجيّة ومعقّباتها الإجتماعيّة، حتّى لم تترك جنساً من الأجناس على أصله، ولم تدع أرضاً يمكن أن يدّعي أهلها أنّهم مواطنوها الأوّلون، باستثناء بعض المناطق التي لم تكن عرضةً للمطامع، او التي يتعذّر الوصول إليها.

وجاء عهد الإستعمار بانتقال أقوامٍ من أوطانهم إلى أقاليمٍ أُخضِعت لها من الوجهة السياسيّة، وكانت بداية هذه الحركات في القرن السابع عشر، وظلّت قائمة إلى القرن الماضي، وقد جعلت أهدافها أمريكا وأفريقيا وأستراليا، وليس من شكّ في أنّ الدول الكبيرة إنّما تلتمس الظفر بمستعمراتٍ لأسبابٍ اقتصاديّةٍ أوّلاً، وللسيطرة والمجد ثانياً، فإنّ المستعمرات كانت كفيلة لها بالمواد الأوّليّة، وهي أيضاً أسواق نافقة لتصريف منتجاتها، ومنفذٌ لتخفيف عن زحمة السكّان في بلادها. يقودنا بحثنا في العقل غير الواعي للعصور الماضية إلى تفاصيل وافية ونتائج ثابتة، حتّى نحصل على أدلّة بالمعنى المألوف في الوثائق التاريخيّة، والواقع أنّ طريقة البحث هذه تمثّل وجهة جديدة تماماً، وانقلاباً في التفكير المعهود. إنّنا بذلك نضع الماضي على سرير التحليل النفسيّ.
و معرفة الحاضر تزيد من فهمنا للماضي، والتعرّف على المفهومات التي استحدثها علماء الإجتماعيّات لتحليل العمليّات الإجتماعيّة المعاصرة، بسهّل التحرّي عن العمليّات المشابهة التي تواجهنا في المدوّنات التاريخيّة. ويحدث العكس أيضاً لأنّ معرفة تاريخ الماضي تنير فهمنا للحاضر، وتقوم في الوقت ذاته بشحذ أدوات التحليل وتوسيع نطاق الشواهد التي تستخدمها العلوم الإجتماعيّة غير التاريخيّة.

إنّ المؤرّخين، على غرار النّاس العاديّين، يقعون أحياناً في استخدام لغة البلاغة، ويتحدّثون عن حدثٍ ما بوصفه (حتميّاً)، في حين أن كلّ ما يقصدونه هو أنّ تضافر العنصر الذي يدفع المرء إلى توقّع ذلك الحدث كان قويّاً للغاية.

يرى ابن خلدون أنّ الحضارات تتعاقب عليها أطوار ثلاثة : هي طور البداوة، وطور التحضّر، وطور التدهور. ففي طور البداوة تجمع النّاس رابطة العصبيّة على ما هو ضروريّ، ثمّ تطلب الغلبة على القبائل الأخرى حتّى تستتبعها وتلتحم بها. ولا تظفر الجماعة باللإنتصار والسيادة إلاّ إذا اعتمدت على مبدأ دينيّ أو سياسيّ، حيث تتشكّل الدولة، بعد أنّ تمّ لها فتح الأمصار وأصبحت تنعم ببحبوحةٍ وعيشٍ كريم. على أنّ تقدّم الحضارات يتوقّف على ثلاثة أشياء، هي مزايا الأرض ومزايا الحكومة، ومزايا السكّان. بعد ذلك يأتي طور التدهور حيث يرى ابن خلدون أنّ عوامل تحضُّر الدولة هي ذاتها عوامل تدهورها. وأوّل هذه العوامل هي العصبيّة، ومحاولة الملك التفرُّد بالحكم والتخلّي عن أبناء قبيلته، وبالتالي الإستعانة بالموالي. والعامل الحاسم في تدهور الدولة هو الترف الذي يفسّره ابن خلدون بأسبابٍ اقتصاديّة وأخلاقيّة ونفسيّة.

إنّ التقدّم في التاريخ – وعلى عكس التطوّر في الطبيعة – يستند إلى تناول الموارد المكتسَبة. وتشمل هذه الموارد الممتلكات المادّيّة وكذلك القدرة على التحكّم بالبيئة وتحويلها واستخدامها. وبالفعل فإنّ هذين العنصرين مترابطان بشدّة ويؤثّر الواحد منهما في الآخر. إنّ كارل ماركس ينظر إلى العمل الإنسانيّ بوصفه أساس الصرح الإجتماعيّ بأسره، وتبدو هذه الصيغة مقبولة إذا ما أُعطيت كلمة (العِلم) معنىً واسعاً بما فيه الكفاية.إذ أنّ مجرّد مراكمة الموارد لن تجدي إلاّ إذا ترافقت ليس مع تزايد المعرفة والخبرة الفنّيّة والإجتماعيّة فحسب، بل ومع تزايد الحكّم ببيئة الإنسان بالمعنى الأوسع.

ولا يجوز أن يبدأ التاريخ من مرحلة معينة دون أخرى أو أبراز فكرة محددة على حساب أخرى. إنّ الأفكار والوقائع تجري في نسق معيّن، فكلّ واقعة مرتبطة بأخرى، وأخريات.و تتضمّن الوقائع علاقات، والملاحظة توجّه إلى كلّ من الوقائع، وعلاقتها بالوقائع الأخرى في آنٍ واحد.و على هذا فلا ينبغي أن يتعدّى كون المؤرّخ أكثر من جامع للأخبار، وإنّما يكون كمحقّق وباحث ومجرّب أيضاُ.

إن التوق إلى تعليل التاريخ عميق الجذور إلى حدّ أنّنا مُعرَّضون، إذا لم نمتلك وجهة نظر بناءه في الماضي، للإنزلاق إلى أحد أمرين : الغيبيّة أو الشكّيّة

يتبع بإذن الله...

0 التعليقات:

إرسال تعليق