بلانش المرأة التي روعت باريس
بسم الله الرحمن الرحيم
جميع البيوت تنطوي على أسرار يحرص أهل الدار على كتمانها جيدا وإبقائها حكرا عليهم ، وهذا أمر مفهوم ، لكن البعض قد يتطرف جدا في مسألة الحفاظ على أسراره ، خصوصا عندما يستشعر خطرا على مكانته الاجتماعية بسببها ، فتراه يبذل كل ما في وسعه لإبقائها طي الكتمان حتى لو استلزم الأمر منه اقتراف أمور بشعة وغير أخلاقية .
في 23 آذار / مارس عام 1901 وصلت رسالة من مجهول إلى مكتب المدعي العام في باريس وتضمنت الآتي :
" سيدي النائب العام ، لي الشرف في أن أبلغكم بوقوع حادثة خطيرة للغاية ، أنا أتكلم عن عانس تم حبسها في منزل السيدة مونييه ، نصف جائعة تعيش على القمامة العفنة لخمسة وعشرون عاما مضت ، بكلمة واحدة يمكن القول بأنها تعيش في قذارتها " .
عائلة مونييه كانت من أرقى العوائل الباريسية
المدعي العام وجد صعوبة في تصديق ما تضمنته الرسالة ، فالسيدة مونييه ، أو بالأحرى الأرملة لويز مونييه ، كانت من وجوه المجتمع الباريسي الراقي ، وزوجها أميل مونييه كان شخصا بارزا شغل منصب عميد كلية الفنون لسنوات قبل وفاته ، أما أبنها مارسيل فكان حقوقيا محترما أمضى ردحا من حياته كمحافظ لإحدى المدن الفرنسية .
كان آل مونييه نموذجا للعائلة الفرنسية المثالية حتى أنهم حصلوا على جائزة (العمل الجيد) والتي كانت تمنح للمواطنين الفرنسيين المتميزين من ذوي الفضائل والمناقب . كما أن العائلة تنحدر من إحدى أعرق الأسر الفرنسية النبيلة .
الشائبة الوحيدة في سجل آل مونييه الناصع البياض كان يتمثل في أبنتهم ، الآنسة بلانش ، التي اختفت بصورة مفاجئة قبل 25 عاما ولم يرها أحد منذ ذلك الحين . وقد قيل حينها بأنها أحبت رجلا لم يوافق أهلها عليه فهربت معه .
آل مونييه أنفسهم كانوا يتجنبون الحديث عن ابنتهم المفقودة ، مضوا في حياتهم وكأنما لم تكن لديهم يوما ابنة أسمها بلانش . لكن تلك البنت لم تكن الأمر الغامض الوحيد في حياة العائلة ، فعلى مدى سنوات طويلة سرت قصص وحكايات ترتعد لها الفرائص عن أمور مخيفة تقع في منزل العائلة الفخم الذي يقبع في أحد أرقى الأحياء الباريسية . الخدم وبعض زوار العائلة أقسموا بأنهم سمعوا صرخات وآهات موحشة يتردد صداها في جنبات ذلك المنزل الكئيب ولا أحد يعلم مصدرها ، لذلك أشيع بأن المنزل مسكون بالأشباح .
كان هناك غموض حول مصير ابنة العائلة ..
كانت عائلة مونييه فوق الشبهات ، لكن المدعي العام كان على علم بشأن قضية أبنتهم المفقودة وما يتردد حول منزلهم من أمور غامضة ، لذلك قرر إرسال بعض محققيه ليتبينوا حقيقة ما ورد من معلومات في الرسالة الغامضة .
رجال الشرطة طرقوا باب آل مونييه وهم يحملون أمرا قضائيا بتفتيش المنزل ، وسرعان ما راحوا يجوبون أرجاء المنزل الواسع بحثا عن أي شيء غير مألوف أو مثير للشبهات . أخيرا وصلوا لباب مقفل في الطابق العلوي فطلبوا فتحه ، لكن الخدم قالوا بأن المفتاح مفقود ، فلم يجد رجال الشرطة بدا من فتح الباب عنوة ، وما أن فعلوا ذلك حتى وجدوا أنفسهم وسط ظلام دامس ورائحة كريهة لا تطاق كأنهم ولجوا إلى قبر مغلق منذ قرون . وبصعوبة ومشقة كبيرة تمكن أحدهم من فتح نوافذ تلك الحجرة دامسة الظلام ، الغريب أنه ما أن لمس الستائر بأصابعه حتى هوت أرضا تحمل معها سيلا لا ينتهي من التراب كأنها لم تفتح منذ دهور .
ولندع الضابط المسئول يحدثنا عما وقع بعد ذلك ، فقد كتب في تقريره التالي :
" حالما دخل الضوء من النافذة لاحظنا وجود امرأة في مؤخرة الغرفة وهي تقبع فوق سرير وتغطي رأسها وجسدها بلحاف قذر ، وقد تم التعرف عليها بأنها الآنسة بلانش مونييه . المرأة المسكينة كانت ترقد عارية تماما فوق ذلك الفراش من القش العفن ، وحولها كانت توجد بقعة كبيرة من البراز وبقايا الطعام من لحوم وخضروات وسمك وخبز عفن ، حتى أننا رأينا صدف المحار ، وكانت هناك حشرات تجري فوق الفراش . الهواء كان ثقيلا لا يطاق ، تنبعث منه رائحة كريهة خانقة بحيث أننا لم نتمكن من البقاء لفترة طويلة من اجل إنهاء تحقيقنا " .
وهكذا تكشف أخيرا سر عائلة مونييه الرهيب .. فابنتهم التي زعموا بأنها مختفية منذ ما يزيد على العشرين عاما اتضح بأنها لم تغادر المنزل أصلا ، طوال تلك السنوات كانت الفتاة المسكينة حبيسة غرفتها تعيش وسط كومة من القاذورات وفي ظلام دامس . كان جسدها متسخا وشعرها طويل جدا وعظامها تكاد تفر من جسدها لشدة هزالها إذ بالكاد كانت تزن 25 كيلوغرام .
كان منظرها الآنسة بلانش مروعا ومخيفا فظن رجال الشرطة بأنها تحتضر وقاموا بلفها بلحافها القذر ثم هرعوا بها إلى المستشفى ، وفي هذه الأثناء كانت أمها ، السيدة لويز مونييه ، تجلس بهدوء وبرود كبير في البهو الكبير وهي تطرز قطعة قماش غير آبهة بما يجري من حولها .
في المستشفى قاموا بغسل بلانش وتنظيفها ، الممرضات قلن بأن بلانش شعرت بسعادة عارمة حين لامس الماء جسدها واستنشقت هواءا نظيفا ، حتى أنها هتفت بحماسة كالأطفال : "ما أجمل هذا !" . لكن على عكس استمتاعها بالماء والهواء النقي كانت لا تتحمل الضوء وتفر منه ، ربما بسبب السنوات الطويلة التي قضتها في الظلمة لم تعد عيناها وبشرتها تتحمل الضوء .
ولاحظ الجميع بأنها هادئة ومستكينة جدا ، بالكاد تتكلم أو تتحرك ، على عكس ما زعمه شقيقها مارسيل من أنها : " هوجاء وعصبية وشديدة الحماس وتتقد غضبا " .
تحقيقات الشرطة
خفايا قصة الآنسة بلانش مونييه بدأت تتكشف للشرطة والصحافة شيئا فشيئا . خيوط القصة تعود إلى ما يزيد عن الربع قرن ، تحيدا عام 1875 ، في تلك الفترة كانت بلانش تعيش مع جدتها ، وكانت تلك الجدة امرأة طيبة القلب إلى أبعد الحدود وتحب حفيدتها حبا بلا حدود ، كانت أقرب إليها من أمها ، فهي التي ربتها بسبب انشغال والد الفتاة بعمله في باريس واصطحابه الدائم لزوجته معه .
تلك الفترة كانت الأسعد والأجمل في حياة بلانش التي كانت آنذاك شابة حسناء في العشرينيات من عمرها بشعر يحاكي الليل في سواده وعيون فاتنة تضاهي البحر في زرقتها وصفاءها ، كانت فتاة ذكية تتقد حيوية ، وبمباركة جدتها تعرفت على محامي وسيم يكبرها بعدة سنوات وأحبته حبا جما . ولم يكن الرجل مخادعا ولا لعوبا ، بل طرق البيوت من أبوابها وتقدم رسميا لخطبة حبيبته . لكنه جوبه برفض قاسي من قبل والدها .
كان والد بلانش كاثوليكيا ثريا ينتمي للطبقة النبيلة ومن دعاة الملكية ، أما المحامي الشاب فكان بروتستانتيا فقيرا من دعاة الجمهورية ، وبسبب هذه الاختلافات الدينية والطبقية والسياسية لم ينل الشاب قبول ورضا أهل الفتاة بل طردوه من منزلهم شر طردة . ومع هذا لم ييأس ، حاول مرارا وتكرارا .. لكن في كل مرة كان يجابه بالرفض والكلام القاسي .
ورغم معارضة عائلتها أصرت بلانش على المضي في علاقتها مع بحبيبها ، ولأننا هنا نتكلم عن أوروبا القرن التاسع عشر ، حيث لم تكن الفتاة الأوروبية تحظى بنفس مساحة الحرية التي تمتلكها اليوم ، لذلك بذلت عائلة بلانش كل ما في وسعها لتطويع أبنتهم وتقييد رغباتها ، خصوصا بعد موت جدتها التي كانت تدافع وتذب عنها ، فبدئوا يضيقون عليها ويمنعونها من الخروج ، وصارت بلانش تتبادل الرسائل سرا مع حبيبها ، تطوي الرسالة كالكرة ثم ترميها من نافذتها فيتلقفها حبيبها الواقف عند سور المنزل ، استمر ذلك لفترة ، لكن إحدى تلك الرسائل سقطت عن طريق الخطأ داخل سور المنزل ووقعت بأيدي والدة بلانش ، وعن طريق تلك الرسالة اكتشفت بأن أبنتها تخطط للهرب برفقة حبيبها من اجل أن يتزوجا بعيدا عن أنظار العائلة ، وهو الأمر الذي أغضبها بشدة فقررت بمساعدة زوجها وأبنها أن يقوموا بحبس الابنة المتمردة داخل حجرتها ويمنعونها حتى من فتح نافذتها .
الفتاة توسلت ، انتحبت طويلا ، طلبت الرحمة ..
لكن لا حياة لمن تنادي .. كانت قلوب آل مونييه أقسى من الحجارة ..
ما جرى للفتاة بعد ذلك وصفته صحيفة التايمز في احد أعدادها الصادرة عام 1901 ، فكتبت الآتي :
"مرت السنوات مسرعة ، لم تعد بلانش شابة ، الرجل الذي أحبته مات فجأة عام 1885 ، وطوال تلك السنين كانت بلانش حبيسة غرفتها تتغذى على فضلات الطعام المتبقية على طاولة أمها ، أنيس وحدتها الفئران الذين قاسمتهم كسرات الخبز اليابسة ، لقد عاشت في ظلام دامس ، لم يكن شعاع الشمس يصل زنزانتها ، ولا يعلم سوى الله ما عانته تلك المسكينة لوحدها في تلك الغرفة على مدى أعوام " .
والد بلانش مات عام 1882 ، لكن ذلك لم يغير شيئا من واقع حياة الابنة ، فالأم أصرت على إبقاءها حبيسة حجرتها ، وقد زعم شقيقها مارسيل لاحقا بأن شقيقته أصيبت بلوثة في عقلها وأنها هي التي حبست نفسها داخل حجرتها وعزلت نفسها عن العالم ولم تحاول ولو لمرة واحدة أن تغادر غرفتها طوال تلك السنين .
لكن إدعاءات مارسيل تناقضها رواية الشهود ، خصوصا خدم المنزل ، فبعضهم قالوا بأن سمعوا في عدة مناسبات صوت امرأة تبكي وتنادي بكلمات من قبيل : "الشرطة" .. "الرحمة" .. "الحرية " .
أحد الشهود قال بأن سمع مرة في عام 1892 امرأة تصرخ قائلة : " ماذا فعلت لكي تحبسوني ؟ .. أنا لا أستحق هذا التعذيب الرهيب ، كيف يسمح الله بتعذيب مخلوقاته بهذا الشكل ؟ .. وكيف لا يأتي أحد لنجدتي! " .
ماذا حدث بعد ذلك ؟ ..
الصحافة كتبت عن قصة بلانش بشكل موسع ، وكان الأمر بمثابة صدمة للرأي العام الفرنسي ، كان أكثر ما روع الناس وأثار سخطهم هي تلك الصورة الرهيبة التي نشرتها الصحف لبلانش حين تم نقلها للمستشفى أول مرة بعد خروجها من زنزانتها المنزلية ، كانت صورة مخيفة قد يظن من يراها للوهلة الأولى بأنها صورة لوحش أو عفريت .
تم إلقاء القبض على السيدة لويز مونييه وإيداعها السجن ، الناس تجمهروا أمام السجن وراحوا يرددون عبارات مليئة بالكراهية والتهديد ضد الأم القاسية ، فقامت الشرطة بنقلها لمكان أكثر أمنا ، ولم تلبث أن نقلت للمستشفى أثر تعرضها لأزمة قلبية ، وهناك فارقت الحياة بعد 15 يوم فقط على تحرير أبنتها من حجرتها المظلمة .
ويقال بأن دمعة يتيمة ترقرقت من عين العجوز قبل أن تغادرها الروح ، وكان آخر ما نطقت به هو : " آااااه .. طفلتي المسكينة بلانش " .
مارسيل مونييه حوكم في نهاية عام 1901 بتهمة تعذيب واختطاف واحتجاز شقيقته قسرا ، المحاكمة استمرت لأربعة أيام وانتهت بالحكم عليه بالسجن لمدة 15 شهرا ، وقد فرح الناس بهذا الحكم واعتبروه بمثابة رد اعتبار بسيط لبلانش . لكن مارسيل لم يقضي يوما واحدا في السجن ، إذ تقدم باستئناف إلى محكمة أخرى ، ورأى القاضي بأنه لم يكن له أي يد في تعذيب شقيقته فأطلق سراحه .
مارسيل باع جميع ميراثه ثم انتقل للعيش في الريف معتزلا الحياة الاجتماعية والمهنية ، ربما أراد الابتعاد عن الناس والهرب من نظراتهم المليئة باللوم والاحتقار ، وهناك مات وحيدا عام 1913 .
بالنسبة لبلانش ، فالظاهر أنها فقدت رشدها بعد كل تلك السنوات من السجن القسري والعزلة عن العالم ، لذلك تم تحويلها إلى مصحة للإمراض العقلية ، وهناك عاشت كالشبح لمدة 12 عام ، قليلة الكلام والحركة ، تجلس لساعات كالتمثال تحدق في الفراغ ، لا أحد يعلم إلى أين كانت تسرح ، وما الذي كان يدور في عقلها ، هذا إذا كان قد تبقى لها عقل طبعا . وهكذا ، على هذه الحالة المحزنة مرت أيامها وسنواتها بصمت حتى وافتها المنية في ذات يوم من عام 1913 .
رواية أخرى للأحداث
للأمانة فأن قصة بلانش التي رويناها لكم أعلاه هي المنتشرة والمتداولة على معظم المواقع الانجليزية والفرنسية ، لكن هناك رواية أخرى تتطابق نوعا ما مع ما قاله مارسيل في المحكمة في أن شقيقته كانت تعاني أصلا من مشاكل عقلية وإنها هي التي اختارت الانعزال داخل حجرتها طوال تلك السنوات وأن أحدا لم يجبرها على ذلك .
صحف ذلك الزمان كتبت بإسهاب عن القضية ..
وبحسب الرواية الثانية فأن والدة بلانش كانت تعتني بابنتها طوال سنوات عزلتها ولم تكن الفتاة معرضة للإهمال ، إذ لا يعقل بأنها لم ترى ضوء الشمس ولا اغتسلت وعاشت وسط البراز والقمامة والفئران لمدة 25 عاما . ذلك مستحيل طبعا .. كانت لتموت منذ أمد بعيد . الأرجح أن الأم كانت فعلا تعتني بابنتها ، لكن خلال الشهرين الأخيرين ، وبحسب ما ذكره مارسيل في المحكمة ، أصيبت الأم بمشكلات صحية وكانت تعاني مرضا في القلب لذلك لم تستطع أن تعتني بابنتها كما يجب فأدركها الإهمال .
هذه الرواية معقولة ، لكن يبقى سؤال ، إذا كانت العائلة مهتمة فعلا لحال أبنتها فلماذا لم يكلفوا إحدى الخادمات لتعتني بها ؟! .. خصوصا وأن المنزل كان يعج بالخدم ، وإذا كانوا لم يجبروها فعلا على البقاء في حجرتها فلماذا لم يعرضوها على طبيب أو يودعوها في مصحة عقلية ، ولماذا أبقوا سر وجودها طي الكتمان طوال تلك السنوات ؟.
أخيرا يبقى لغز الرسالة المجهولة ، يا ترى من أرسلها لمكتب المدعي العام ؟.. هناك عدة آراء بهذا الصدد . البعض يرى بأن مارسيل هو الذي أرسل الرسالة لأنه كان يعلم بأن أمه مريضة وتحتضر ، فخشي أن يتحمل مسؤولية شقيقته لوحده . وهناك رأي آخر بأن مرسل الرسالة هو جندي كان صديقا لإحدى خادمات منزل آل مونييه .
ختاما ..
ما يؤلم ويحز في النفس هو أن قصة بلانش ليست فريدة ولا نادرة حتى في أيامنا هذه ، فكم من فتاة أجبرت على ترك المدرسة وحبست داخل منزلها واضطرت للزواج بشخص لا تحبه ولا تريده . إن المرء قد يتحمل أصناف العذاب والظلم حين يقع عليه من قبل الغرباء ، لكن أن يتعرض للظلم ويطاله الحيف والجور من أهله فهذا لعمري من أصعب الأمور وأشدها وقعا على النفس . ولقد صدق الشاعر طرفة بن العبد حين قال :
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة *** على النفس من وقع الحسام المهنّد
0 التعليقات:
إرسال تعليق